الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
مثال آخر: الرؤيا التي تراها وتتحرك فيها. هل الرؤيا موجودة في جسمك؟ أو ماذا؟ والحِلْم وهو الصبر على غيرك لأن تتحمله وتعطف عليه وتضحك له، هذا الحلم يجعلك تنفعل، فهل تدرك أنت هذا الحلم؟ أنه معنى من بعض المعاني في نفسك التي تحرك جوارحك ولا تدركها، مثله مثل الشجاعة التي تصول بها وتجول ولا تراها محيزة، ولا تعرف شكلها أو لونها أو طعمها، فالأعلى الذي يدير هذا الكون غير مدرَك بالأبصار. والذي يُتعب الناس أنهم يحاولون الجمع بين الإدراك والوجود، ولذلك نقول: ابحث أيها الإنسان في كونك ولسوف تجد فارقًا بين الإدراك والوجود.ونعلم أن اسم الله نفسه وهو لفظ ننطقه لنفهم ونستدل به على أنه الخالق الأعلى وهو متحدًى به. وأنت أيها الإنسان قد اخترعت- على سبيل المثال- التليفزيون وكان من قبل أن يوجد معدومًا لا اسم له، وصار له اسم منذ أن أوجده الإنسان، صالحًا لمهمة معينة، أما اسم الله فهو موجود وقديم من قبلك وأخبرك به الرسل، وهو سبحانه وتعالى له اسم في كل لغة من اللغات، ووجود هذا الاسم في كل اللغات بنطق مختلف هو دليل على أسبقية وجود الذات وهو الله. وبعد ذلك جاء الكفر، وعرفنا أن الكفر كان محاولة لستر الوجود الأول، وبذلك دلت كلمة الكفر على الإيمان. والذي يرهق الإنسان هو محاولته لحصر الموجود الأعلى في شكل طبقًا لإمكانات وحدود البشر. ولا أحد يستطيع أن يحصر وجوده سبحانه في شكل معين؛ لأن من عظمته أننا لا نقدر على تصوره، والإيمان به سبحانه يدل عليه وهو يقول عن نفسه ما شاء. وأحب أن تحفظوا هذا المثل وتضربوه لصغاركم:لنفترض أن إنسانًا يجلس مع أسرته في حجرة، ثم طُرق الباب، وكل من يجلس في الحجرة يتيقن أن طارقًا بالباب ولا يختلف أحد منهم في هذه المسألة. فيقول أحد الأبناء: الطارق محمد ويقول الثاني: إنه محمود ويقول الثالث: لا، إنه إبراهيم فتقول الزوجة: إن الطارق امرأة، لكن أحد الأبناء يقول: لا، إنه رجل فيقول الأب: لعله شرطي جاء يسألني عن أمر ترد الزوجة: توقع خيرًا، إنك تصنع كل خير ولابد أن يأتي لك كل طارق بخير.هنا اختلفت الأسرة لا في تعقل الطارق، ولكن في تصور الطارق، يقول الأب: بدلا من الحيرة لنسألة من أنت؟، فيجيب الطارق: أنا فلان.وهكذا الكون، طرأ الإنسان عليه وتساءل من الذي خلقه. ذلك أن الإنسان جاءته الغفلة بعد أن عرف آدم ربه وبعد أن أشهد الحق ذرية آدم أنه ربهم. ثم أرسل الحق الرسل ليبلغوا الخلق منهجه واسمه وصفاته. وأراد سبحانه بذلك ألا يرهق خلقه، وأبلغ الناس من خلال الرسل أنه الخالق الأكرم.وآفة الفلاسفة أنهم لم يكتفوا بتعقل الإله، بل أرادوا أن يتصوروه، وهذا أمر غير ممكن. لذلك نقول: علينا أن نستمع إلى الحق يقول ما شاء عن نفسه ولا داعي للخلاف. وسبحانه وتعالى يقول: {وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض} وإياك أيها المسلم أن تفهم أن السماء والأرض هنا ظرفية، لأن الظرفية وعاء وحيز، وإذا كنت لم تعلم مكان روحك في جسدك، فكيف تعلم مكان الله؟ لقد قصد الله بذلك القول أنه معبود في السموات ومعبود في الأرض.ولنلحظ أن بعض آيات القرآن توقف الذهن عندها كي تظل الأذهان دائمًا مشغولة بكلمات الله، ولو جاء القرآن بكلمات يسهل على الفهم العادي إدراك معانيها لما تجددت معاني الكتاب العظيم في كل زمان، وكأن الحق قد قصد ذلك حتى يثبت الناس في كل العصور من إيمانهم. وها هم أولاء بعض من الذين يحاولون الخوض في القرآن تساءلوا عن معنى قوله الحق: {وَهُوَ الذي فِي السماء إله وَفِي الأرض إله وَهُوَ الحكيم العليم} [الزخرف: 84].تساءلوا عن معنى التكرار أنه إله في السموات وإله في الأرض. وظن بعض السطحيين أنه قصد القول بأن هناك إلهًا في السموات وإلهًا آخر في الأرض، ولم يفطنوا إلى أن المعنى المقصود هو: إنه إله يعبد في السماء ويعبد في الأرض، وهو صاحب الحكمة المطلقة في كل أفعاله وهو المحيط بكل كونه. وأن الحق إنما يريد بهذا القول أن يشغل الأذهان به.ونقول أيضًا لهولاء الذين لم يفهموا المعنى: هناك قاعدة في اللغة تحدد النكرة وتحدد المعرفة؛ فعندما نقول: جاءني الرجل فهذا الرجل يكون معروفًا للقائل والسامع. ولكن عندما نقول: جاءني رجل فهذا غير معروف للسامع وقد يكون معروفًا للقائل. وإذا قلنا: جاءني رجل وأكرمت رجلًا فمعنى ذلك أن القائل يتحدث عن رجلين؛ أحدهما جاء، والآخر كان موضع التكريم. أما إن قال القائل: جاءني رجل فأكرمت الرجل فالحديث هنا عن رجل واحد.إذن فالنكرة إن أعيدت نكرة تكون مختلفة، والنكرة إن أعيدت معرفة تكون هي بعينها. وعندما قال الحق سبحانه: {وَهُوَ الذي فِي السماء إله وَفِي الأرض إله} [الزخرف: 84].تصور البعض أن إله نكرة، عندما أعيدت صارت غيرها، ولو كان الأمر كذلك لفسدت الدنيا. ولكن القاعدة الغالبة من العلماء عرفوا روح النص. وقال أهل العلم بالتوحيد: لابد لنا أن نلتفت إلى أنه سبحانه قال: {وَهُوَ الذي}، وكلمة الذي اسم موصول واحد يدلنا على أن الحق صلته بالسماء وبالأرض واحدة، ولهذا نقول لمن وقفوا عند هذه الآية: لا تبحثوا عن النكرة المكررة بمعزل عن الاسم الموصول، لأن الاسم الموصول معرفة.{وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} إنه إله واحد يعلم السر والجهر، ويترتب على هذا أساس الثواب والعقاب. فلا تظن أيها الإنسان أنك تفلت من حساب ربك، وإن كان سبحانه يعلم السر فمن باب أولى أن يعلم الجهر. ولو قال إنه يعلم السر فقط لظن بعض الناس أنه سبحانه لا يعلم إلا المستور لكونه سبحانه غيبا، ونقول: لا. هو- جل شأنه- وإن كان غيبا إلا أنه يعلم الغيب ويعلم المشهد، أو أنه سبحانه لم ينتظر علمه إلى أن يبرز الشيء جهرا بل هو بكمال علمه وطلاقة إحاطته يعلمه من أول ما كان سرًا ويعلمه ويحيط به بعد أن برز وظهر ووجد وكأنه سبحانه يؤرخ للعلم في ذات الإنسان الواحد {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ}.وهو سبحانه يعلمنا انه لا يقف عند السر فقط: {وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى} [طه: 7].إنه سبحانه وتعالى يعلم السر من قبل أن يكون سرًا. وكل أمر قبل أن يصبح جهرًا يكون سرًا، وقبل أن يكون سرًا هو أخفى من السر. ويذيل الحق تلك الآية بقوله: {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} والكسب إنما ينشأ من عملية تجارة في رأس مال ما والزائد عليه يكون هو الكسب، وقد يكون الكسب خيرًا أو شرًا، فالذي يكسب شرًا هو الذي يأخذ فوق ما أحل الله له.والكسب كذلك يكون خيرًا، فإن قدّم الإنسان حسنة يكسب عشر حسنات. والمتكلم هو الله الذي له الحمد لأنه خالق السموات والأرض والظلمات والنور. ولكن الكافرين يترصدون لكلمة التوحيد، ويأتيهم الخبر بأن الحق خلقنا من طين، ويعلم السر وما هو أخفى من السر، ويعلم ما نكسب من خير أو شر، ولا يؤثر ذلك كله في المنصرفين عن دعوة الحق من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يميلهم ويعطفهم إلى الصراط المستقيم. اهـ.
|